فصل: سُـورَة الفَـلق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 ودين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدًا فقط؛ ولهذا مشاعر الحج ـ غير المسجد الحرام ـ تقصد للنسك، لا للصلاة فلا صلاة بعرفة، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر يوم عرفة بعرفة خطب بها ثم صلى، ثم بعد الصلاة ذهب إلى عرفات، فوقف بها، وكذلك يذكر الله ويدعى بعرفات وبمزدلفة على قزح، وبالصفا والمروة، وبين الجمرات، وعند الرمي‏.‏ ولا تقصد هذه البقاع للصلاة‏.‏ وأما غير المساجد ومشاعر الحج فلا تقصد بقعة لا للصلاة، ولا للذكر، ولا للدعاء، بل يصلي المسلم حيث أدركته الصلاة، إلا حيث نهي، ويذكر الله ويدعوه حيث تيسر من غير قصد تخصيص بقعة بذلك، وإذا اتخذ بقعة لذلك كالمشاهد نهي عن ذلك، كما نهي عن الصلاة في المقبرة، إلا ما يفعله الرجل عند السلام على الميت من /الدعاء له وللمسلمين، كما يفعل مثل ذلك في الصلاة على الجنازة، فإن زيارة قبر المؤمن من جنس الصلاة على جنازته، يفعل في هذا من جنس ما يفعل في هذا، ويقصد بالدعاء هنا ما يقصد بالدعاء هنا‏.‏

ومما يشبه هذا أن الأنصار بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بالوادى الذي وراء جمرة العقبة؛ لأنه مكان منخفض قريب من منى، يستر من فيه، فإن السبعين الأنصار كانوا قد حجوا مع قومهم المشركين، ومازال الناس يحجون إلى مكة قبل الإسلام وبعده، فجاؤوا مع قومهم إلى منى؛ لأجل الحج، ثم ذهبوا بالليل إلى ذلك المكان لقربه وستره لا لفضيلة فيه، ولم يقصدوه لفضيلة تخصه بعينه‏.‏

ولهذا لما حج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لم يذهبوا إليه، ولا زاروه، وقد بنى هناك مسجد، وهو محدث، وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث، ومنى نفسها لم يكن بها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد مبني، ولكـن قــال‏:‏ ‏(‏منى مناخ لمن سبق‏)‏ فنزل بها المسلمون، وكان يصلى بالمسلمين بمنى، وغير منى، وكذلك خلفاؤه من بعده، واجتماع الحجاج بمنى أكثر من اجتماعهم بغيرها، فإنهم يقيمون بها أربعًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلُّون بالناس بمنى وغير منى، وكانوا يقصرون/الصلاة بمنى وعرفة ومزدلفة، ويجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ويصلى بصلاتهم جميع الحجاج من أهل مكة وغير أهل مكة، وكلهم يقصرون الصلاة بالمشاعر، وكلهم يجمعون بعرفة ومزدلفة‏.‏

وقد تنازع العلماء في أهل مكة ونحوهم‏:‏ هل يقصرون أو يجمعون‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يقصرون ولا يجمعون، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏وقيل‏:‏ يجمعون ولا يقصرون، كما يقول ذلك أبو حنيفة وأحمد ومن وافقه من أصحابه وأصحاب الشافعى‏.‏وقيل‏:‏ يجمعون ويقصرون، كما قال ذلك مالك وابن عيينة وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب أحمـد وغيرهم، وهذا هو الصواب بلا ريب، فإنه الذي فعله أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم قط ولا أبو بكر ولا عمر بمنى ولا عرفة ولا مزدلفة‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ولكن ثبت أن عمر قال ذلك في جوف مكة‏.‏وكذلك في الســنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في جـوف مكة في غزوة الفتح‏.‏ وهـذا مـن أقـوى الأدلة على أن القصر مشروع لكل مسافر، ولو كان سفره بريدًا، فإن عرفة مـن مكة بريـد ـ أربع فراسـخ ـ ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه بمكة صلاة عيد، بل ولا صلى في أسفاره قط صـلاة/ العيد، ولا صلى بهم في أسفاره صلاة جمعة يخطب ثم يصلى ركعتين، بل كان يصلى يوم الجمعة في السفر ركعتين، كما يصلى في سائر الأيام‏.‏

وكذلك لما صلى بهم الظهر والعصر بعرفة صلى ركعتين، كصلاته في سائر الأيام، ولم ينقل أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة في السفر، لا بعرفة ولا بغيرها، ولا أنه خطب بغير عرفة يوم الجمعة في السفر، فعلم أن الصواب ما عليه سلف الأمة وجماهيرها من الأئمة الأربعة وغيرهم، من أن المسافر لا يصلى جمعة ولا غيرها، وجمهورهم ـ أيضًا ـ على أنه لا يصلى عيدًا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وهذا هـو الصواب ـ أيضًا ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يكونوا يصلون العيد إلا في المقام، لا في السفر، ولم يكن يصلى صلاة العيد إلا في مكان واحد مع الإمام يخرج بهم إلى الصحراء فيصلى هناك، فيصلى المسلمون كلهم خلفه صلاة العيد ـ كما يصلون الجمعة ـ ولم يكن أحد من المسلمين يصلى صلاة عيد في مسجد قبيلته ولا بيته، كما لم يكونوا يصلون جمعة في مساجد القبائل، ولا كان أحد منهم بمكة يوم النحر يصلى صلاة عيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، بل عيدهم بمنى بعد إفاضتهم من المشعر الحرام، ورمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لسائر أهل الأمصار يرمون ثم ينحرون وسائر أهل/الأمصار يصلون ثم ينحرون، والنبى صلى الله عليه وسلم لما أفاض من منى نزل بالمحَصِّبِ، فاختلف أصحابه‏:‏ هل التحصيب سنة لاختلافهم في قصده هل قصد النزول به أو نزل به لأنه كان أسمح لخروجه‏؟‏ وهذا مما يبين أن المقاصد كانت معتبرة عندهم في المتابعة‏.‏

ولما اعتمر عمرة القضية وكانت مكة مع المشركين لم تفتح بعد، وكان المشركون قد قالوا‏:‏ يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حُمى يثرب، وقعد المشركون خلف قعيقعان ـ وهو جبل المروة ـ ينظرون إليهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط من الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم‏.‏وروى أنه دعا لمن فعل ذلك، ولم يرملوا بين الركنين؛ لأن المشركين لم يكونوا يرونهم من ذلك الجانب، فكان المقصود بالرمل إذ ذاك من جنس المقصود بالجهاد، فظن بعض المتقدمين أنه ليس من النسك؛ لأنه فعل لقصد وزال، لكن ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حجوا رملوا مــن الحــجر الأسـود إلى الحجـر الأسود، فكملوا الرَّمْلَ بين الركنين، وهذا قدر زائد على ما فعلوه في عمرة القضية، وفعل ذلك في حجة الوداع مع الأمن العام، فإنه لم يحج معه إلا مؤمن، فدل ذلك على أن الرمل صار من سنة الحج، فإنه فعل أولا لمقصود الجهاد، ثم شرع نسكًا، كما روى في سعى هاجر، وفي رمي الجمار، وفي ذبح الكبش‏:‏ أنه/فعل أولًا لمقصود، ثم شرعه الله نسكًا وعبادة، لكن هذا يكون إذا شرع الله ذلك وأمر به، وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله، كما لو قال قائل‏:‏ أنا أستحب الطواف بالصخرة سبعًا، كما يطاف بالكعبة، أو أستحب أن أتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى، كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، ونحو ذلك، لم يكن له ذلك؛ لأن الله ـ تعالى ـ يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه، إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم، وإما لمحض تخصيص المشيء ة على قول بعضهم، كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها، وكما خص عرفات بالوقوف بها، وكما خص منى برمي الجمار بها، وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها، وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه، إلى أمثال ذلك‏.‏

وإبراهيم ومحمد كل منهما خليل الله، فإنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله اتخذنى خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلا‏)‏‏.‏وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن رجلًا قال للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا خير البرية قال‏:‏ ‏(‏ذاك إبراهيم‏)‏‏.‏ فإبراهيم أفضل الخلق بعد محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏وقوله‏:‏ ‏(‏ذاك إبراهيم‏)‏ تواضع مـنه، فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائى يوم القيامة ولا فخر‏)‏ إلى غير /ذلك من النصوص المبينة أنه أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، وإبراهيم هو الإمام الذي قال فيه‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، وهو الأمة أي‏:‏ القدوة الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وهو الذي بوأه الله مكان البيت، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه، وقد حرم الله الحرم على لسانه، وإسماعيل نبأه معه، وهو الذبيح الذي بذل نفسه لله وصبر على المحنة، كما بينا ذلك بالدلائل الكثيرة في غير هذا الموضع، وأمه هاجر هي التي أطاعت الله ورسوله إبراهيم في مقامها مع ابنها في ذلك الوادى الذي لم يكن به أنيس، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وكان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم، فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره، وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها، ولا ريب أن الله شرع لإبراهيم السعى ورمي الجمار والوقوف بعرفات بعد ما كان من أمر هاجر وإسماعيل وقصة الذبح وغير ذلك ما كان، كما شرع لمحمد الرَّمْلَ في الطواف حيث أمره أن ينادى في الناس بحج البيت، والحج مبناه على الذل والخضوع لله؛ ولهذا خص باسم النسك، والنَّسْكُ في اللغة‏:‏ العبادة‏.‏

/قال الجوهري‏:‏ النَّسْكُ‏:‏ العبادة، والنَّاسِكُ‏:‏ العابد، وقد نَسَكَ وتَنَسَّك، أي‏:‏ تعبد، ونَسُك بالضم، أي‏:‏ صار ناسكا، ثم خص الحج باسم النسك؛ لأنه أدخل في العبادة والذل لله من غيره، ولهذا كان فيه من الأفعال ما لا يقصد فيه إلا مجرد الذل لله، والعبادة له، كالسعى ورمي الجمار‏.‏قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما جعل رمي الجمار والسعى بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله‏)‏ رواه الترمذي‏.‏ وخص بذلك الذبح الفداء ـ أيضًا ـ دون مطلق الذبح؛ لأن إراقة الدم لله أبلغ في الخضوع والعبادة له، ولهذا كان من كان قبلنا لا يأكلون القربان، بل تأتى نار من السماء فتأكله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏‏.‏

وكذلك كانوا إذا غنموا غنيمة جمعوها ثم جاءت النار فأكلتها ليكون قتالهم محضا لله لا للمغنم، ويكون ذبحهم عبادة محضة لله لا لأجل أكلهم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وسع الله عليهم لكمال يقينهم وإخلاصهم، وأنهم يقاتلون لله ولو أكلوا المغنم، ويذبحون لله ولو أكلوا القربان؛ ولهذا كان عباد الشياطين والأصنام يذبحون لها الذبائح - أيضًا - فالذبح للمعبود غاية الذل والخضوع له‏.‏

ولهذا لم يجز الذبح لغير الله، ولا أن يسمى غير الله على الذبائح، / وحرم ـ سبحانه ـ ما ذبح على النصب، وهو ما ذبح لغير الله، وما سمى عليه غير اسم الله، وإن قصد به اللحم لا القربان، ولعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذبح لغير الله، ونهي عن ذبائح الجن، وكانوا يذبحون للجن، بل حرم الله ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا كما دل على ذلك الكتاب والسنة في غير موضع‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، أي‏:‏ انحر لربك، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، وقد قال هو وإسماعيل ـ إذ يرفعان القواعد من البيت ـ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127، 128‏]‏، فالمناسك هنا مشاعر الحج كلها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فالمقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه بغاية العبودية له، والعبـودية فيها غايـة المحبـة وغايـة الذل والإخلاص، وهـذه ملة إبراهيم الخليـل، وهـذا كلـه مما يبين أن عبادة القلـوب هي الأصـل، كما قـال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجسـد مضغـة إذا صلحت صلح الجـسد كلـه، وإذا فسـدت فسـد الجسـد كلـه ألا وهي القـلب‏)‏، /والنيـة والقصـد هما عمـل القلب، فـلابد في المتابعـة للرسول صلى الله عليه وسلم من اعتبار النية والقصد‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما احتجم وأمر بالحجامة‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏شفاء أمتي في شَرْطَةِ محجم، أو شَرْبَة عسل، أو كية بنار، وما أحب أن أكتوي‏)‏، كان معلومًا أن المقصود بالحجامة‏:‏ إخراج الدم الزائد الذي يضر البدن، فهذا هو المقصود، وخص الحجامة لأن البلاد الحارة يخرج الدم فيها إلى سطح البدن فيخرج بالحجامة؛ فلهذا كانت الحجامة في الحجاز ونحوه من البلاد الحارة يحصل بها مقصود استفراغ الدم، وأما البلاد الباردة، فالدم يغور فيها إلى العروق فيحتاجون إلى قطع العروق بالفصاد‏.‏وهذا أمر معروف بالحس والتجربة، فإنه في زمان البرد تسخن الأجواف وتبرد الظواهر؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، فإذا برد الهواء برد ما يلاقيه من الأبدان والأرض، فيهرب الحر الذي فيها من البرد المضاد له إلى الأجواف فيسخن باطن الأرض ـ وأجواف الحيوان، ويأوى الحيوان إلى الأكنان الدافئة ـ ولقوة الحرارة في باطن الإنسان يأكل في الشتاء وفي البلاد الباردة أكثر مما يأكل في الصيف وفي البلاد الحارة؛ لأن الحرارة تطبخ الطعام وتصرفه، ويكون الماء النابع في الشتاء سَخِنًا لسخونة جوف الأرض، والدم سخن فيكون في جوف العروق لا في سطح الجلد، فلو احتجم لم ينفعه ذلك بل قد يضره، وفي الصيف/والبلاد الحارة تسخن الظواهر فتكون البواطن باردة فلا ينهضم الطعام فيها كما ينهضم في الشتاء، ويكون الماء النابع باردًا لبرودة باطن الأرض‏.‏ وتظهر الحيوانات إلى البرارى لسخونة الهواء، فهؤلاء قد لا ينفعهم الفصاد، بل قد يضرهم، والحجامة أنفع لهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏شفاء أمتي‏)‏ إشارة إلى من كان حينئذ من أمته وهم كانوا بالحجاز، كما قال‏:‏ ‏(‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏)‏؛ لأن هذا كان قبلة أمتي حينئذ؛ لأنهم كانوا بالمدينة وما حولها، وهذا كما أنه في آخر الأمر بعد أن فرض الحج سنة تسع أو سنة عشر وَقَّتَ ثلاث مواقيت للمدينة ولنجد وللشام، ولما فتح اليمن وَقَّتَ لهم يلملم، ثم وَقَّتَ ذات عِرْقٍ لأهل العراق، وهذا كما أنه فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير عن كل صغير وكبير ذكرًا وأنثى من المسلمين، وكان هذا هو الفرض على أهل المدينة؛ لأن الشعير والتمر كان قوتهم، ولهذا كان جماهير العلماء على أنه من اقتات الأرز والذرة ونحو ذلك يخرج من قوته، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهل يجزيه أن يخرج التمر والشعير إذا لم يكن يقتاته‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏

وكان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس النَّدَفِ، وفتح الله لهم بها البلاد، وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف لكونها كانت شعار الكفار، فأما بعد أن/اعتادها المسلمون وكثرت فيهم وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس، فلا تكره في أظهر قولى العلماء، أو قول أكثرهم؛ لأن الله تعالى‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏

والقوة في هذا أبلغ بلا ريب، والصحابة لم تكن هذه عندهم فعدلوا عنها إلى تلك؛ بل لم يكن لهم غيرها، فينظر في قصدهم بالرمي‏:‏ أكان لحاجة إليها إذ ليس لهم غيرها‏؟‏ أم كان لمعنى فيها‏؟‏ ومن كره الرمي بها كرهه لمعنى لازم، كما يكره الكفر وما يستلزم الكفر، أم كرهها لكونها كانت من شعائر الكفار فكره التشبه بهم‏؟‏

وهذا كما أن الكفار من اليهود والنصارى إذا لبسوا ثوب الغيار من أصفر وأزرق نهي عن لباسه لما فيه من التشبه بهم، وإن كان لو خلا عن ذلك لم يكره، وفي بلاد لا يلبس هذه الملابس عندهم إلا الكفار فنهي عن لبسها، والذين اعتادوا ذلك من المسلمين لا مفسدة عندهم في لبسها‏.‏

ولهذا كره أحمد وغيره لباس الســواد لما كان في لباســه تشبه بمن يظلم أو يعين على الظلم، وكره بيعه لمن يستــعين بلبسه على الظلم، فأما إذا لـم يكـن فيـه مفسدة لم ينه عنه‏.‏

وكره من كره من الصحابة والتابعين بيع الأرض الخراجية؛ لأن/ المسلم المشترى لها إذا أدى الخراج عنها أشبه أهل الذمة في التزام الجزية، فإن الخراج جزية الأرض، وإن لم يؤدها ظلم المسلمين بإسقاط حقهم من الأرض، لم يكرهوا بيعها لكونها وقفا، فإن الوقف إنما منـع مـن بيعه لأن ذلك يبطل الوقـف؛ ولهذا لا يباع ولا يـوهب ولا يُـورث، والأرض الخراجية تنتقل إلى الوارث باتفاق العلماء، وتجوز هبتها، والمتهب المشترى يقوم فيها مقام البائع فيؤدى ما كان عليه من الخراج، وليس في بيعها مضرة لمستحقى الخراج، كما في بيع الوقف‏.‏وقد غلط كثير من الفقهاء فظنوا أنهم كرهوا بيعها لكونها وقفًا، واشتبه عليهم الأمر؛ لأنهم رأوا الآثار مروية في كراهة بيعها، وقد عرفوا أن عمر جعلها فيء ا لم يقسمها قط، وذلك في معنى الوقف، فظنوا أن بيعها مكروه لهذا المعنى، ولم يتأملوا حق التأمل، فيرون أن هذا البيع ليس هو من جنس البيع المنهي عنه في الوقف، فإن هذه يصرف مغلها إلى مستحقها قبل البيع وبعده، وعلى حد واحد، ليست كالدار التي إذا بيعت تعطل نفعها عن أهل الوقف وصارت للمشتري‏.‏

وأعجب من ذلك أن طائفة من هؤلاء قالوا‏:‏ مكة إنما كره بيع رباعها لكونها فتحت عنـوة، ولم تقسم ـ أيضًا ـ وهم قـد قالوا مـع جميع الناس‏:‏ إن الأرض العنوة التي جعلت أرضها فيء ا يجوز بيع مساكنها، والخراج إنما جعل على المزارع لا على المساكن، فلو كانت /مكـة قـد جعلت أرضها للمسلمين، وجعـل عليها خراج لم يمتنع بيع مساكنها لذلك، فكيف ومكة أقرها النبي صلى الله عليه وسلم بيد أهلها على ما كانت عليه مساكنها ومزارعها ولم يقسمها ولم يضرب عليها خراجا؛ولهذا قال مـن قال‏:‏ إنها فتحت صلحًا، ولا ريب أنها فتحت عنوة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة المتواترة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق أهلها جميعهم فلم يقتل إلا من قاتله، ولم يَسْبِ لهم ذرية، ولا غنم لهم مالًا؛ ولهذا سموا الطلقاء‏.‏

وأحمد وغيره من السلف إنما عللوا ذلك بكونها فتحت عنوة مع كونها مشتركة بين المسلمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، وهذه هي العلة التي اختصت بها مكة دون سائر الأمصار، فإن الله أوجب حجها على جميع الناس، وشرع اعتمارها دائمًا فجعلها مشتركة بين جميع عباده، كما قـال‏:‏ ‏{‏سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏}‏‏.‏ ولهذا كانت منى وغيرها من المشاعر من سبق إلى مكان فهو أحـق بـه حتى ينتقـل عنـه كالمساجـد، ومكـة نفسها مـن سبـق إلى مكان فهـو أحق به، والإنسان أحق بمسكنه ما دام محتاجًا إليه وما استغنى عنه من المنافع فعليه بذله بلا عوض لغيره من الحجيج، وغيرهم؛ ولهذا كانت الأقوال في إجارة دورها وبيع رباعها ثلاثة‏.‏

قيـل‏:‏ لا يجوز لا هذا ولا هذا، وقيل‏:‏ يجوز الأمران، /والصحيح أنه يجوز بيع رباعها، ولا يجـوز إجارتها، وعلى هـذا تـدل الآثار المنقـولـة في ذلك عـن النبي صلى الله عليه وسلم وعـن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فـإن الصحابة كانوا يتبايعون دورها، والدور تورث وتوهب، وإذا كـانت تورث وتوهب جاز أن تباع بخلاف الوقف، فإنه لا يباع ولا يورث ولا يوهب‏.‏

وكذلك أم الولد من لم يجوز بيعها لم يجوز هبتها ولا أن تورث، وأما إجارتها فقد كانت تدعى السوائب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن؛ لأن المسلمين كلهم محتاجون إلى المنافع، فصارت كمنافع الأسواق والمساجد والطرقات التي يحتاج إليها المسلمون، فمن سبق إلى شيء منها فهو أحق به، وما استغنى عنه أخذه غيره بلا عوض، وكذلك المباحات التي يشترك فيها الناس، ويكون المشترى لها استفاد بذلك أنه أحق من غيره ما دام محتاجا، وإذا باعها الإنسان قطع اختصاصه بها وتوريثه إياها، وغير ذلك من تصرفاته؛ ولهذا له أن ألا يبذله إلا بعوض، والنبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ على أهل مكة، فإن الأسير يجوز المن عليه للمصلحة، وأعطاهم مع ذلك ذراريهم وأموالهم، كما مَنَّ على هوازن لما جاؤوا مسلمين بإحدى الطائفتين‏:‏ السبي أو المال، فاختاروا السبي فأعطاهم السبي وكان ذلك بعد القسمة، /فعوض عن نصيبه من لم يرض بأخذه منهم، وكان قد قسم المال فلم يرده عليهم، وقريش لم تحاربه كما حاربته هوازن، وهو إنما مَنَّ على مَنْ لم يقاتله منهم كما قال‏:‏ ‏(‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن‏)‏‏.‏

فلما كف جمهورهم عن قتاله، وعرف أنهم مسلمون أطلقهم، ولم يغنم أموالهم ولا حريمهم، ولم يضرب الرق لا عليهم ولا على أولادهم بل سماهم الطلقاء من قريش، بخـلاف ثقيف، فـإنهم سموا العتقاء، فإنه أعتق أولادهم بعد الاسترقاق والقسمة، وكان في هـذا مـا دل على أن الإمـام يفعل بالأمـوال والرجـال والعقار والمنقول ما هو أصلح، فـإن النبي صلى الله عليه وسلم فتـح خيبر فقسمها بين المسلمـين، وسبى بعض نسائها، وأقر سائرهم مع ذراريهم حتى أجلوا بعد ذلك، فلم يسترقهم، ومكة فتحها عنوة ولم يقسمها لأجل المصلحة‏.‏

وقد تنازع العلماء في الأرض إذا فتحت عنوة هل يجب قسمها كخيبر لأنها مغنم‏؟‏ أو تصير فيئا كما دلت عليه سورة الحشر، وليست الأرض من المغنم‏؟‏ أو يخير الإمام فيما بين هذا وهذا‏؟‏ على ثلاثة أقوال، وأكثر العلماء على التخيير، وهو الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وغيرهما‏.‏

/ولو فتح الإمام بلدًا وغلب على ظنه أن أهله يسلمون ويجاهدون جاز أن يمن عليهم بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، فإنهم أسلموا كلهم بلا خـلاف، بخـلاف أهـل خيبر فـإنـه لم يسلم منهـم أحـد، فأولئك قسم أرضهم؛ لأنهم كـانوا كفارًا مصرين على الكفر، وهؤلاء تركها لهم؛ لأنهم كلهم صاروا مسلمين، والمقصود بالجهاد‏:‏ أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم ليتألفهم على الإسلام، فكيف لا يتألفهم بابقاء ديارهم وأموالهم‏؟‏ ‏!‏

وهم لما حضروا معه حنينًا أعطاهم من غنائم حنين ما تألفهم به، حتى عتب بعض الأنصار، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك‏:‏ أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين ـ حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ـ‏:‏ ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى رجالًا من قريش المائة من الإبل، فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله يعطى قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس‏:‏ فحدث ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما حديث بلغنى عنكم‏؟‏ ‏!‏‏)‏ فقال له فقهاء الأنصار‏:‏ أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة/أسنانهم فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله يعطى قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله‏؟‏ ‏!‏ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به‏)‏، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قد رضينا، قال‏:‏ ‏(‏فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض‏)‏ قالوا‏:‏ سنصبر‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لو سلك الناس واديا أو شِعْبًا وسلكـت الأنصـار واديًـا أو شِـعْـبًا لسـلكـت وادى الأنصـار وشعبهم، الناس دثارٌ، والأنصار شعار، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار‏)‏، وحدثهم حتى بكوا ـ رضي الله تعالى عنهم‏.‏

فهذا كله بذل وعطاء لأجل إسلام الناس، وهو المقصود بالجهاد‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الإمام يجب عليه قسمة العقار والمنقول مطلقًا، فقوله في غاية الضعف مخالف لكتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر، وليس معه حجة واحدة توجب ذلك، فإن قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر تدل على جواز ما فعل، لا تدل على وجوبه، إذ الفعل لا يدل بنفسه على الوجوب، وهو لم يقسم مكة ولا شك أنها فتحت عنوة، وهذا يعلمه ضرورة من تدبر الأحاديث، وكذلك المنقول من قال‏:‏ إنه يجب قسمه كله بالسوية بين الغانمين في كل غزاة، فقوله/ضعيف، بل يجوز فيه التفضيل للمصلحة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل في كثير من المغازي‏.‏

والمؤلفـة قلوبهم الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم خيبر فيما أعطاهم قـولان‏:‏ أحـدهما‏:‏ أنـه مـن الخمس، والثاني‏:‏ أنـه من أصل الغنيمة، وهذا أظهر؛ فإن الذي أعطاهم إياه هو شيء كثير لا يحتمله الخمس، ومن قال‏:‏ العطاء كان من خمس الخمس، فلم يدر كيف وقع الأمر، ولم يقل هذا أحد من المتقدمين، هذا مع قوله‏:‏ ‏(‏ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم‏)‏‏.‏ وهذا لأن المؤلفة قلوبهم كانوا من العسكر، ففضلهم في العطاء للمصلحة كما كان يفضلهم فيما يقسمه من الفيء للمصلحة‏.‏

وهذا دليل على أن الغنيمة للإمام أن يقسمها باجتهاده كما يقسم الفيء باجتهاده، إذا كان إمام عدل قسمها بعلم وعدل، ليس قسمتها بين الغانمين كقسمة الميراث بين الورثة، وقسمة الصدقات في الأصناف الثمانية؛ ولهذا قال في الصدقات‏:‏ ‏(‏إن الله لم يرض فيها بقسمة نبي ولا غيره، ولكن جعلها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأصناف أعطيتك‏)‏، فعلم أن ما أفاء الله من الكفار بخلاف ذلك، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر لأهل السفينة الذين قدموا مع جعفر، ولم يقسم لأحد غاب عنها غيرهم، وقسم من غنائم بدر لطلحة والزبير ولعثمان، / وكان قد أقام بالمدينة، وهؤلاء الذين كانوا يريدون القتال وكانوا مشغولين ببعض مصالح المسلمين الذين هم فيها في جهاد‏.‏

وأيضًا، أهل السفينة وطلحة والزبير وعثمان لم يكونوا كغيرهم، والقتال لم يكن لأجل الغنيمة، فليست الغنيمة كمباح اشترك فيه ناس مثل الاحتشاش والاحتطاب والاصطياد، فإن ذلك الفعل مقصوده هو اكتساب المال، بخلاف الغنيمة، بل من قاتل فيها لأجل المال لم يكن مجاهدًا في سبيل الله؛ ولهذا لم تبح الغنائم لمن قبلنا وأبيحت لنا معونة على مصلحة الدين‏.‏

فالغنائم أبيحت لمصلحة الدين وأهله، فمن كان قد نفع المجاهدين بنفع استعانوا به على تمام جهادهم جعل منهم وإن لم يحضر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون يد واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد متسريهم على قاعدهم‏)‏، فإن المتسرى إنما تسرى بقوة القاعد، فالمعاونون للمجاهدين من المجاهدين‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا ذكر متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه يعتبر فيه متابعته في قصده، فإذا قصد مكانًا للعبادة فيه كان قصده لتلك/ العبادة سنة، وأما إذا صلى فيه اتفاقا من غير قصد لم يكن قصده للعبادة سنة؛ ولهذا لم يكن جمهور الصحابة يقصدون مشابهته في ذلك، وابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مع أنه كان يحب مشابهته في ظاهر الفعل لم يكن يقصد الصلاة إلا في الموضع الذي صلى فيه لا في كل موضع نزل به، ولهذا رخص أحمد بن حنبل في ذلك إذا كان شيئًا يسيرًا، كما فعله ابن عمر، ونهي عنه ـ رضي الله عنه ـ إذا كثر لأنه يفضي إلى المفسدة، وهي اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهي التي تسمى المشاهد، وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فِعْل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبنى آدم؛ ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيما لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع‏.‏

ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركًا وبدعًا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها /جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها ـ إن صلوا ـ إلا أفرادًا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه ‏[‏مناسك حج المشاهد‏]‏ وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطـوائـف، وإن كان في غيرهم ـ أيضًا ـ نوع من الشرك والكذب والبدع؛ لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول‏.‏

والله إنما أمر في كتابه وسنة رسوله بالعبادة في المساجد، والعبادة فيها هي عمارتها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، ولم يقل‏:‏ مشاهد الله، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، ولم يقل‏:‏ عند كل مشهد، فإن أهل المشاهد ليس فيهم إخلاص الدين لله، بل فيهم نوع من الشرك، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ‏}‏ الآيات ‏[‏التوبة‏:‏ 17، 18‏]‏، وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان‏)‏، ثم قرأ هذه الآية‏.‏فإن المراد بعمارتها عمارتها بالعبادة فيها كالصلاة والاعتكاف، يقال‏:‏ مدينة عامرة، إذا كانت مسكونة، ومدينة خراب، إذا لم يكن فيها ساكن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيها البر والفـاجر، والمسـلم والكـافر، وذلك يسـمى بناء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة‏)‏، فبين اللهـ تعالى ـ أن المشركين ما كان لهم عمارة مساجد الله مع شهادتهم على أنفسهم بالكفر، وبين إنما يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، وهذه صفة أهل التوحيد وإخلاص الدين لله، الذين لا يخشون إلا الله، ولا يرجون سواه، ولا يستعينون إلا به، ولا يدعون إلا إياه، وعمار المشاهد يخافون غير الله، ويرجون غيره، ويدعون غيره، وهو ـ سبحانه ـ لم يقل‏:‏ إنما يعمر مشاهد الله، فإن المشاهد ليست بيوت الله، إنما هي بيوت الشرك؛ ولهذا ليس في القرآن آية فيها مدح المشاهد، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم في/ذلك حديث، وإنما ذكره الله عمن كان قبلنا أنهم بنوا مسجدًا على قبر أهل الكهف، وهؤلاء من الذين نهانا الله أن نتشبه بهم حيث قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

ففي هذا الحديث ذم أهل المشاهد، وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة، كما قال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏، ثم أهل المشاهد كثير من مشاهدهم أو أكثرها كذب، فإن الشرك مقرون بالكذب في كتاب الله كثيرًا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30، 31‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏)‏ قالها ثلاثا‏.‏وذلك كالمشهد الذي بنى بالقاهرة على رأس الحسين، وهو كذب باتفاق أهل العلم، ورأس الحسين لم يحمل إلى هناك أصلًا، وأصله من عسقلان‏.‏وقد قيل‏:‏ إنه كان رأس راهب، ورأس الحسين لم يكن بعسقلان، وإنما أحدث هذا في أواخر دولة الملاحدة بنى عبيد‏.‏

وكذلك مشهد على ـ رضي الله عنه ـ إنما أحدث في دولة بنى/ بويه، وقال محمد بن عبد الله مطين الحافظ وغيره‏:‏ إنما هو قبر المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ وعلى ـ رضي الله عنه ـ إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة، ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق، ودفن عمرو ابن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون، فإن الخوارج كانوا تعاهدوا على قتل الثلاثة، فقتل ابن ملجم عليا، وجرح صاحبه معاوية، وعمرو كان استخلف رجلًا اسمه خارجة فقتله الخارجى‏.‏ وقال‏:‏ أردت عمرًا وأراد الله خارجة‏.‏فسارت مثلًا‏.‏

فالمقصود أن هذا المشهد إنما أحدث في دولة الملاحدة دولة بني عبيد، وكان فيهم من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثيرة؛ ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعًا كثيرًا، ودخلت النصارى إلى الشام، فإن بنى عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله، ولا في الجهاد في سبيل الله، بل في الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان، وأتباعهم كلهم أهل بدع وضلال، فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام، ثم قيض الله من ملوك السنة مثل نور الدين، وصلاح الدين، وإخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام، وجاهدوا الكفار والمنافقين‏.‏

/ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها، وإن كان المسلم المصلي لا يقصد السجود لها، لكن سد الذريعة لئلا يتشبه بالمشركين في بعض الأمور التي يختصون بها فيفضى إلى ما هو شرك؛ ولهذا نهي عن تحرى الصلاة في هذين الوقتين، هذا لفظ ابن عمر الذي في الصحيحين‏.‏ فقصد الصلاة فيها منهي عنه‏.‏

وأمـا إذا حدث سبب تشرع الصلاة لأجله، مثل تحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجـود التلاوة، وركعتى الطواف، وإعادة الصلاة مع إمام الحي ونحو ذلك، فهذه فيها نزاع مشهـور بين العلماء، والأظهـر جواز ذلك واستحبابه، فإنه خير لا شر فيه، وهو يفـوت إذا ترك، وإنما نهي عن قصد الصلاة وتحريها في ذلك الوقت لما فيه من مشابهة الكفار بقصـد السجـود ذلك الوقت، فما لا سبب له قد قصد فعله في ذلك الوقت، وإن لم يقصـد الوقت، بخـلاف ذي السبب فـإنه فعـل لأجـل السبب فلا تأثير فيه للوقت بحال، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عـن الصـلاة في المقبرة عموما فقال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏)‏ رواه أهل السنن، وقد روى مسندًا ومرسلًا، وقد صحح الحفاظ أنه مسند، فإن الحمام مأوى الشياطين، والمقابر نهى عنها/ لما فيه من التشبه بالمتخذين القبور مساجد، وإن كان المصلى قد لا يقصد الصلاة لأجل فضيلة تلك البقعة، بل اتفق له ذلك‏.‏

لكن فيه تشبه بمن يقصد ذلك، فنهي عنه كما ينهي عن الصلاة المطلقة وقت الطلوع والغروب‏.‏ وإن لم يقصد فضيلة ذلك الوقت لما فيه من التشبه بمن يقصد فضيلة ذلك الوقت وهم المشركون، فنهيه عن الصلاة في هذا الزمان، كنهيه عن الصلاة في ذلك المكان، فلما كان الشرك الذي أضل أكثر بنى آدم أصله وأعظمه من عبادة البشر والتماثيل المصورة على صورهم، فإن المشركين قد اعتادوا آلهة يلدون ويولدون، ويَرثون و يُورثون، ويكونون من شيء من الأشياء، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إلهه الذي يعبده‏:‏ من أي شيء هو‏؟‏ أمن كذا أم من كذا‏؟‏ وممن ورث الدنيا‏؟‏ ولمن يورثها‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏

وفي حديث أبي بن كعب‏:‏ ‏(‏لأنه ليس أحد يولد إلا يموت، ولا أحد يرث إلا يورث‏)‏‏.‏ يقول‏:‏ كل من عُبِدَ من دون الله قد وُلِدَ مثل المسيح والعزير وغيرهما من الصالحين وتماثيلهم، ومثل الفراعنة المدعين الإلهية، فهذا مولود يموت، وهو وإن كان ورث من غيره ما هو فيه، فإذا مات ورثه غيره‏.‏ والله - سبحانه - حي لا يموت، ولا يورث ـ سبحانه وتعالى‏.‏ والله أعلم، وصلى الله على محمد‏.‏

/ سُـورَة الفَـلق

وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ناصر السنة، قامع البدعة، تقى الدين أحمد بن تيمية نفعنا المولى بعلومه ـ وهو مما كتبه في القلعة‏:‏

 فصل

في ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏، والفلق‏:‏ فعل بمعنى مفعول، كالقبض بمعنى المقبوض‏.‏فكل ما فلقه الرب فهو فلق‏.‏قال الحسن‏:‏ الفَلْقُ‏:‏ كل ما انفلق عن شيء، كالصبح، والحب، والنوى‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وإذا تأملت الخلق، بان لك أن أكثره عن انفلاق/كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر‏.‏

وقد قال كثير من المفسرين‏:‏ الفْلَقُ‏:‏ الصبح، فإنه يقال‏:‏ هذا أبين من فلق الصبح، وفرق الصبح‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الفَلْقُ‏:‏ الخلق كله، وأما من قال‏:‏ إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم، أو أنه اسم من أسماء جهنم، فهذا أمر لا تعرف صحته، لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة، بخلاف ما إذا قال‏:‏ رب الخلق، أو رب كل ما انفلق، أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار، فإن في تخصيص هذا بالذكر ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به، وإذا قيل‏:‏ الفلق يعم ويخص، فبعمومه للخلق أستعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهارى أستعيذ من شر غاسق إذا وقب‏.‏

فإن الغاسق قد فسر بالليل، كقوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، وهذا قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة قالوا‏:‏ ومعنى ‏{‏وَقَبَ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 3‏]‏‏:‏ دخل في كل شيء‏.‏قال الزجاج‏:‏ الغاسق‏:‏ البارد‏.‏ وقيل‏:‏ الليل غاسق، لأنه أبرد من النهــار‏.‏ وقــد روى الترمذي والنسائي عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقـال‏:‏ ‏(‏يا عائشة تعوذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب‏)‏‏.‏ وروى/من حديث أبي هريرة مرفوعًا‏:‏ ‏(‏إن الغاسق النجم‏)‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل، فجعلوه قولًا آخر، ثم فسروا وقوبه بسكونه‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ ويقال‏:‏ الغاسق‏:‏ القمر إذا كُسف واسود‏.‏ومعنى وقب‏:‏ دخل في الكسوف، وهذا ضعيف، فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره، وهو لا يقول إلا الحق، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه، بل مع ظهوره، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏، فالقمر آية الليل‏.‏وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل، فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل، ودليله وعلامته، والدليل مستلزم للمدلول، فإذا كان شر القمر موجودًا، فشر الليل موجود، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره، فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى، ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى‏:‏ ‏(‏هو مسجدي هذا‏)‏ مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعًا‏.‏وكذلك قوله عن أهل الكساء‏:‏ ‏(‏هؤلاء أهل بيتى‏)‏ مع أن القرآن يتناول نساءه، فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف، فالقمر أحق ما يكون بالليل بالاستعاذة والليل مظلم، تنتشر فيه شياطين/الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجرى فيه من أنواع الشر ما لا يجرى بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسحر والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك، فالشر دائمًا مقرون بالظلمة؛ ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر وبدعوته، والقمر وعبادته، وأبو معشر البلخى له ‏[‏مصحف القمر‏]‏ يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه‏.‏

فذكر ـ سبحانه ـ الاستعاذة من شر الخلق عمومًا، ثم خص الأمر بالاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، وهو الزمان الذي يعم شره، ثم خص بالذكر السحر والحسد‏.‏

فالسحر يكون من الأنفس الخبيثة، لكن بالاستعانة بالأشياء كالنفث في العقد‏.‏والحسد يكون من الأنفس الخبيثة ـ أيضًا ـ إما بالعين، وإما بالظلم باللسان واليد، وخص من السحر النفاثات في العقد، وهن النساء‏.‏والحاسد الرجال في العادة، ويكون من الرجال ومن النساء‏.‏

والشر الذي يكون من الأنفس الخبيثة من الرجال والنساء، هو شر منفصل عن الإنسان، ليس هو في قلبه كالوسواس الخناس‏.‏

وفي سورة الناس ذكر‏:‏ ‏{‏الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 4‏]‏، فإنه مبدأ الأفعال/المذمومة من الكفر والفسوق والعصيان، ففيها الاستعاذة من شر ما يدخل الإنسان من الأفعال التي تضره من الكفر والفسوق والعصيان، وقد تضمن ذلك الاستعاذة من شر نفسه‏.‏

وسورة الفلق فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عـمومًـا وخصوصًـا؛ ولهذا قيـل فيهـا‏:‏ ‏{‏بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 1‏]‏، وقيل في هذه‏:‏ ‏{‏بِرَبِّ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1‏]‏، فإن فالق الإصباح بالنور يزيل بما في نوره من الخير ما في الظلمة من الشر، وفالق الحب والنوى بعد انعقادهما يزيل ما في عقد النفاثات، فإن فلق الحب والنوى أعظم من حل عقد النفاثات، وكذلك الحسد هو من ضيق الإنسان وشحه لا ينشرح صدره لإنعام الله عليه، فرب الفلق يزيل ما يحصل بضيق الحاسد وشحه، وهو ـ سبحانه ـ لا يفلق شيئًا إلا بخير، فهو فالق الإصباح بالنور الهادي، والسراج الوهاج الذي به صلاح العباد، وفالق الحب والنوى بأنواع الفواكه والأقوات التي هي رزق الناس ودوابهم، والإنسان محتاج إلى جلب المنفعة من الهدى والرزق، وهذا حاصل بالفلق، والرب الذي فلق للناس ما تحصل به منافعهم يستعاذ به مما يضر الناس، فيطلب منه تمام نعمته بصرف المؤذيات عن عبده الذي ابتدأ بإنعامه عليه، وفلق الشيء عن الشيء هو دليل على تمام القدرة، وإخراج الشيء من ضده كما يخرج الحي من الميت والميت من الحي، وهذا من نوع الفلق، فهو ـ سبحانه ـ قادر على دفع الضد المؤذي بالضد النافع‏.‏